"إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا "(البقرة:26).
"إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا "(البقرة:26).
من الدلالات العلمية للنص الكريم :
أولا : النص الكريم يشمل ما فوق البعوضة حجما وما هو أقل منها , وما هو أشد منها خطرا وما هو أهون منها :
من معاني هذا النص الكريم أن قدرة الله المبدعة في الخلق تتجلي في أدق المخلوقات حجما كما تظهر في أضخمها بناء , وتجليها في الكائنات المتناهية الضآلة في الحجم قد يكون أبلغ من وضوحها في الكائنات العملاقة , وكان الجهل بأخطار البعوض , وبوجود كائنات أدق منه بكثير من وراء استنكار كل من الكفار والمشركين والمنافقين ضرب المثل في القرآن الكريم ببعض الحشرات من مثل البعوض , والذباب , والنحل , والنمل , والنمل الأبيض , والفراش , والجراد , والقمل , والمن . وببعض العناكب الصغيرة مثل العنكبوت .
ولما لم يكن في زمن الوحي من يدرك من الكائنات الحية ما هو أدق من البعوضة (وذلك من مثل: الفيروسات , البكتريا , الطحالب وغيرها من البدائيات , والأوليات (الطلائعيات) , والفطريات أو الفطور , وغير ذلك من الكائنات الدقيقة ومنها المتطفل وغير المتطفل , فقد جاءت الصياغة القرآنية المعجزة بقول الحق (تبارك وتعالى) :
" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " (البقرة:26) .
وتعبير (ما فوقها) يشمل المعنيين المتضادين معا أي ما يفوقها ضآلة في الحجم حتى لا يري بالعين المجردة , وما يفوقها ضخامة في البنيان , وكذلك يشمل هذا التعبير القرآني أخطار البعوضة كما يشمل أخطار غيرها من كل من الكائنات الدقيقة التي لم تكن معروفة في زمن الوحي بالقرآن الكريم , والكائنات التي تفوقها حجما , لأن الفوقية في اللغة تعني الزيادة والعلو في صفة يوضحها السياق .
وقد استهان الناس في القديم بالبعوضة لضآلة حجمها , فاستنكر القرآن الكريم عليهم ذلك , واتخذها مثلا يتحدي به الكفار والمشركين قبل إن يعرف دورها في نقل العديد من الأمراض الفتاكة بكل من الإنسان وبغيره من أنواع الحيوان , بل من قبل إن يعرف الإنسان من ناقلات الأمراض ما هو دونها حجما بما يزيد على اثني عشر قرنا من الزمن .
ثانيا : النص القرآني يشير إلى خطر البعوضة :
والبعوضة هي حشرة ضئيلة الحجم من ثنائيات الأجنحة (Diptera) , تتبع مجموعة ضخمة من الحشرات تعرف باسم(FamilyCulicdae) , وتضم مابين الألفين والثلاثة آلاف نوع من البعوض . وتأتي في المرتبة الثانية تعدادا بعد النمل . ويتراوح طول البعوضة بين الثلاثة والتسعة ملليمترات , وهي مع ضآلة حجمها فان جسمها يتكون كما تتكون أجساد غيرها من الحشرات من رأس , وصدر , وبطن , ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة , وزوج من الأجنحة الدقيقة القوية والقادرة على الخفق المتواصل السريع الذي يصل إلى ستمائة خفقة في الثانية الواحدة , ولها قرنا استشعار في قمة الحساسية والكفاءة , وعين البعوضة عين مركبة تتألف من مئات العيينات المستقلة تشريحيا والمتكاملة وظيفيا مما يعطيها قدرة هائلة للرؤية بالليل وبالنهار في كل أطياف الضوء , ولها جميع الأجهزة الحيوانية كاملة على الرغم من ضآلة حجمها .
وأنثى البعوض تتغذي على دماء ذوي الدماء الحارة ولذلك فان لها فما ثاقبا ماصا تستخدمه في امتصاص الدم من الإنسان ومن كل حيوان ذي دم حار , وعندما تغرس مثقابها في جلد الإنسان أو الحيوان فإنها تفرز لعابها الذي يحمل مركبات عضوية تؤدي إلى احتقان الجلد , وأخري تمنع الدم من التجلط حتى يسهل امتصاصه , بينما يتغذي ذكر البعوض على رحائق الأزهار فقط . وتضع أنثي البعوض البالغة مابين المائة والأربعمائة بيضة في المرة الواحدة , والذي ينجو من افتراس الحيوانات الأخرى من بيض البعوضة قد يفقس بعد يوم أو يومين , أو يبقي في فترة كمون قد تمتد إلى الأسبوعين , ويعتمد ذلك على عوامل كثيرة , منها وفرة الماء لأنه ضروري لفقس البيض ولحياة كل من اليرقات والعذارى .
ومع ضآلة حجم البعوضة فإنها تمثل خطرا لا يستهان به على صحة كل من الإنسان والحيوان , فالبعوض الأنثى التي تتغذي على دماء كل من الإنسان وعلى دماء غيره من الحيوانات ذوات الدم الحار تصبح وسيلة خطيرة لنقل العديد من مسببات الأمراض من مثل الفيروسات , البكتيريا , الطحالب , وغيرها من البدائيات والأوليات (الطلائعيات) , ومن مثل الفطريات , وغير ذلك من الكائنات الدقيقة التي تصيب كلا من الإنسان والحيوان .
ومن الأمراض التي تنقلها البعوضة: الملاريا , الملاريا الخبيثة , داء الفيل , الحمى الصفراء , الحمى الدماغية , الحمى الشوكية , الحمى النازفة , مرض حمي أبي الركب (أو حمي تكسير العظام أو حمي الركب النازفة) , حمي الوادي المتصدع , مرض دودة القلب , الالتهاب السحائي , الالتهاب المخي , الالتهاب المخي الشوكي , وأمراض ضعف المناعة ومنها الإيدز . ومن أخطر ما تحمله البعوضة فيروسات تغزو الجهاز العصبي للإنسان مما قد يصيبه بعدد من الأمراض فائقة الخطورة من مثل مرض التهاب الدماغ والسحايا (Encephalomeningitis) , ومرض التهاب الدماغ والنخاع (Encephalomyelitis) .
والأمراض التي تنقلها البعوضة قد أدت إلى هلاك الملايين من البشر منذ بدء الخليقة وإلى يومنا الراهن حيث لا تزال تصيب الملايين في كل عام إلى أن يشاء الله , ولذلك تعد هذه الحشرة الضئيلة الحجم واحدة من أخطر الآفات الحشرية المعروفة . ومن هنا كان ضرب المثل بها في القرآن الكريم على شدة خطرها مع ضآلة حجمها , وعلى وجود ما هو أخطر وأدق منها وما هو أعظم منها حجما وخطرا من مخلوقات الله الأخرى . ومن هنا أيضا كان تحدي الله (سبحانه وتعالى) كل الكافرين والمنافقين والمشركين من أهل الجزيرة العربية , وغيرهم من أهل الأرض إلى قيام الساعة بهذه الحشرة المتناهية الصغر في الحجم , وفي زمن الوحي لم يكن احد من الناس يدرك حقيقة خطر البعوضة فكانوا يستهينون بها , وفي زماننا ـ زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه ـ تقف البشرية عاجزة أمام أخطار هذه الحشرة الصغيرة على الرغم من كل مستويات التقدم التي حققها إنسان هذا العصر .
وأنواع البعوض التي يتراوح عددها بين الألفين والثلاثة آلاف نوع نختار منها الأنواع الثلاثة التالية
(1) بعوضة الأنفيل ((Anopheles التي تنقل طفيل مرض الملاريا (مرض البرداء) وهذا الطفيل معروف باسمPlasmodium)) ,كما تنقل طفيليات العديد من الأمراض الأخرى مثل طفيل مرض الفيلاريا (Filaria) الذي يسبب داء الفيل ((Elephantiasis . وتنقل فيروس حمي التهاب الدماغ المعروف باسم الحمى الدماغية Encephalitis)) .
(2) بعوضة الكيولكس (Culex) التي تنقل كلا من طفيل مرض الفيلاريا , وفيروس الحمى الدماغية .
(3) البعوضة الزاعجة (Aedes) التي تنقل فيروسات الحمي الصفراء (YellowFever) والحمى الدماغية وحمى الضنك (DengueFever) المعروفة باسم حمي أبي الركب أو حمي الركب النازفة أو حمي تكسير العظام .
وتتم دورة طفيل مرض الملاريا (البرداء) بين بعوضة الأنفيل والإنسان حيث تنفذ البعوضة مسببات المرض إلى مجري دم الإنسان عند قرصه , فتحملها مجاري الدم إلى الكبد حيث يبدأ الطفيل في التكاثر لا جنسيا وفي مهاجمة خلايا الدم الحمراء التي تنفجر لتملأ مجري الدم بجراثيم المرض التي تبدأ في التكاثر جنسيا بعد عدد من الأجيال فتؤدي إلى الحمى وإلى تضخم الطحال , وإذا تعرض هذا المريض لقرصة أخرى من ناموسة الأنفيل فإن هذا الطور الجنسي من الطفيليات ينتقل إلى معدة البعوضة حيث يتم تكاثره لا جنسيا وانتقاله إلى غددها اللعابية فيصبح جاهزا لإصابة إنسان آخر تعضه هذه البعوضة , وبذلك يصاب أكثر من 270 مليون إنسان بالملاريا سنويا في كل أنحاء الأرض , ويتوفي منهم قرابة المليونين من الأفراد مما يجعل الملاريا من أكثر الأمراض انتشارا في كوكبنا الأرضي , وقد عجزت أكثر دول العالم تقدما في مجال العلوم البحتة والتطبيقية عن مقاومة أخطار البعوضة , ففي أغسطس من سنة 1995م انتشرت في مدينة نيوجيرسي (في شرق الولايات المتحدة الأمريكية) أسراب من البعوضة الزاعجة (Aedesalbopictus) وكانت تهاجم الناس بشراسة بقرصاتها المؤلمة حتى في وضح النهار وقد عرفت باسم النمر الآسيوي (TheAsianTiger) لأصولها الآسيوية , ولشراستها في الهجوم , وكانت هذه الحشرة قد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1985م بعد أن غزت كلا من جزر هاواي ومناطق من المحيط الهادي عقب الحرب العالمية الثانية (1945م) , ولا تزال هذه الحشرة الصغيرة تجتاح آلاف الأنفس من أبناء القوة العسكرية الكبرى في العالم دون أن تنفعها أسلحتها في الدفاع عنهم , ولله جنود السماوات والأرض .
ثالثا : النص القرآني يفيد أن أنثي البعوض وحدها هي الناقلة للأمراض ومن ثم كانت مناط التحدي :
إن إفراد لفظ (بعوضة) , وتأنيثه في هذا النص القرآني المعجز يشير إلى تمايز الأنثى عن الذكر في هذه الحشرة الخطيرة , وإلى تفرد الأنثى وحدها دون الذكر بهذا الخطر الداهم وهي حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (1897م - 1900م) .
كذلك فإن تنكير لفظ (بعوضة) , وإيراد اسم الموصول (ما) أيضا منكرا مرتين يشير إلى تعدد أنواع البعوض , فضلا عن شمول كل مما هو دونها حجما , وما أكثر منها ضخامة , وكل ما هو دونها أو أكثر منها ضررا من مخلوقات الله الأخرى .
وهذه حقائق لم تصل إلى علم الإنسان إلا بعد مجاهدة استغرقت جهود آلاف من العلماء منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ولا تزال مستمرة إلى اليوم , مستغرقة جهود الآلاف منهم إلى أن يشاء الله , وورودها بهذه الصياغة العلمية الشاملة والدقيقة في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي (عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم) وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية , بل هو كلام الله الخالق , ويشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة , فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
إرسال تعليق